۲۴۲۰۳
۰
۱۳۹۳/۰۳/۱۷

الرحلة المكيّة [1120 ـ 1122 الهجریة النبویة]

پدیدآور: سيّد مرتضى بن عليّ بن علوان الشامي مصحح: الشيخ حسين الواثقي

خلاصه

صاحب الرحلة فهو من الشرفاء السادة الشاميّين ومن رجال الشيعة الاثنى عشريّة، والمحتمل أنّه من آل المرتضى، سَدَنَة العتبة الزينبيّة المقدّسة بحوالي دمشق.

المقدّمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

يرجع تاريخ هذه الرحلة إلى سنة 1120 هـ وابتدأ مؤلّفها بسفر الحجّ إلى بيت اللّه الحرام من دمشق، فوصل إلى المدينة المنوّرة، ثمّ إلى مكّة المعظّمة، ثمّ رجع إلى المدينة النبويّة، ثمّ إلى الأحساء، ثمّ إلى الكويت، ثمّ إلى البصرة، ثمّ إلى أعتاب أئمّة أهل البيت عليهم‏السلام في العراق، فابتدأ بزيارة النجف الأشرف، ثمّ كربلاء، ثمّ زيارة مدينة الكاظميّة جنب بغداد، ثمّ توجّه إلى سامراء، ثمّ سار إلى بعقوبة من حدود العراق وإيران، ليُكمِل مسيره إلى خراسان لزيارة الإمام عليّ بن موسى الرِّضا 7، ولم يكتب عن بعقوبة وما بعدها شيئاً.

وقد تحدّث أوّلاً الدكتور اولترش هارمان من جامعة فرايبورج عن بعض جوانب هذه الرِّحلة في الندوة العالميّة لدراسة مصادر تاريخ الجزيرة العربيّة التي عقدت في الرياض أواخر إبريل سنة 1977م.

ثمّ قرأ الرحلة الدكتور عبد اللّه الصالح العثيمين ومرّ عليها، وكتب مقالاً حولها نُشر في مجلّة دراسات الخليج [الفارسیة] والجزيرة العربيّة، العدد الثاني عشر، السنة الثالثة، سنة 1397هـ، ص209 ـ 216. ثمّ نشره في كتابه بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربيّة السعوديّة، ص129 ـ 140.

والآن وصلت النوبة إليّ لأن أُخرج هذه الدرّة الثمينة من خزائن المخطوطات إلى عالَم المطبوعات، ليعمّ النفع للباحثون في دراساتهم حول الحجّ والعلاقات بين الدول الإسلاميّة وبين أتباع المذاهب الإسلاميّة شيعةً وسنّةً، والوقوف على الآداب المكيّة والمدنيّة، وثقافة الشيعة الإماميّة.

وكان جلّ اهتمامي إخراج نصّ يقرب ممّا صدرَ من قلم المؤلّف، و لم أظفر على مخطوطةٍ اُخرى من الرِّحلة.

و المخطوطة الوحيدة المعتَمَد عليها، محفوظة في المكتبة الوطنيّة في برلين ألمانيا، فهكذا مواصفاتها: آلوارت، الرقم 6137 = وتس اشتاين II، الرقم 1860، الورقة 102 أ ـ 115 ب. في كلّ صفحة 23 سطراً.

Ahlwardt NO. 6137. =Wetzstein

II NO. 1860، fol. 102a ـ 115 b.

وأمّا صاحب الرحلة فهو من الشرفاء السادة الشاميّين ومن رجال الشيعة الاثنى عشريّة، والمحتمل أنّه من آل المرتضى، سَدَنَة العتبة الزينبيّة المقدّسة بحوالي دمشق.

والرحلة واضحة المعنى، وإن كان في بعض ألفاظها ركاكة، وكذا بعض أبياتها الشعريّة مختلّ الوزن، نبقاها علی حالها، ولكنّ ذلك يُوفي بالغرض والمقصود.

 

[تمهيد]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه‏ ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وأصحابه نجوم الدِّين.

وبعدُ، فيقول العبد الفقير إلى اللّه الغنيّ المنّان مرتضى بن عليّ بن علوان: إنّني قد حججتُ ـ وللّه‏ الحمد ـ في أيّام الصِّبا وعنفوان الشباب، وذلك في عام ثمانية وثمانين بعد الألف من هجرة من له الشرف، وكتبتُ منازل الحاجّ كلّ منزلةٍ باسمها، فلمّا مَنَّ اللّه علينا بالوصول إلى الوطن تذكّرنا ما ضيّعنا من الفَطِن، وهو أن لو كنّا ضَبَطنا كلّ قِناق[1] سيره كم ساعة، لَعَلِمنا بالضرورة من الشّام إلى عرفات كم ساعة، فحكمنا على أنفسنا إن مَنَّ اللّه علينا بالحجّ إلى بيته الحرام ثانياً نستلف ما فات أوّلاً، ممّا ذكرنا من ضبط المسافة، وإن كان العلم في ذلك لا يُغني عن شيء، فهو من باب العلم بالشيء، فأقول إلى أن مَنَّ اللّه علينا بالحجّ ثانياً ـ وله الحمد ـ ونرجوا منه الثالثة، وذلك في سنة عشرين ومائة وألف، يَسّر اللّه ذلك صحبة الشيخين الأكرمين الأخين الأجلّين؛ مولانا الشيخ الأجلّ الفاضل، والعالم النبيل الكامل، حاوي رياسة الدُّنيا و الدِّين مولانا الشيخ زين العابدين[2]، وأخيه الأغرّ الأفضل، والعالم العامل الأكمل، الموفّق في الدُّنيا والدِّين، شقيقه الشيخ جمال الدِّين، وَلَدَي المرحوم المبرور ذوي الفضل الحاسم، المعروف بحُسن الخُلق والمباسم، مولانا المرحوم وعمّنا المبرور الشيخ محمّد قاسم ـ سقى اللّه ثراه صبيب الرّحمة والرضوان، و جَمَعنا به في مستقرّ رحمته في غُرَف الجنان، بمحمّدٍ وآله سيّد ولد عدنان ـ و نسأل اللّه لنا ولهما العناية والتوفيق بمحمّدٍ وآله أُولي التحقيق.

وكان أمير الحاجّ إذ ذاك الوزير المكرَّم نصوح محمّد باشا كافل الشام ـ أدام اللّه أيّامه ـ وكان السردار فخر الأعيان عبد اللّه آغا أغة الينكچرية بدمشق، والچاويش محمّد آغا المعروف بكتكوت، وقاضي الرّكب مع قضاء مكّة المشرّفة مولانا المحترم عبد اللّه أفندي ابن حامد أفندي ـ حفظه المُعيد المُبدي ـ وذلك أنّنا اشترينا وإيّاهما جِمالاً على سبيل الشركة، وكانت ساعة بركة، والمقصد في ذلك هَدْأَة بالِنا في الطريق، وخوفاً أن نقع مع بعض المقوِّمين في المتاعب المهلكة.

 

[من دمشق إلى المدينة المنوّره]

خرجنا بعد أن صرفنا، وخرجنا من منزلنا المبارك بدمشق، نهار الثلاثة، بعد أن صلّينا الظهر، وهو اليوم السادس والعشرين من شهر شوّال المبارك سنة عشرين ومائة وألف، وقد كان مضى من كانون الأوّل عشرين يوماً. والفائدة في ذكر كانون ليعلم السامعون أنّه فصل شتاء هَتون[3]، وليله أطول من نهاره.

وكان توجّهنا مع الركب الحلبي، والسّبب الداعي لتأخّرنا عن الشامي أنّه توجّه يوم الخميس حادي عشر الشهر المذكور، صار في ذلك اليوم مطر عظيم غزير مِدرار هَتون، طَيَّر النوم من العيون، وأجرى من الجفون عيون، وعطّل الناس عن الشؤون، واتّصل بالجمعة والسبت، فمن كان له النصيب توجّه ذلك اليوم، واستوفى ما ناله من النصب والنصيب، ولا شكّ أنّ الأجر على قدر المشقّة، ومن كان له بالتوفيق أدنى نصيب تخلّف إلى نهار الثلاثة المذكور، وهو السادس والعشرون من الشهر المشكور، وكُنّا منهم ـ و للّه‏ الحمد ـ فخرجنا بمَن شَيَّعنا من الأولاد والأحفاد والأقارب والأصحاب والأعزّاء والأحباب، إلى محلٍّ يُقال له المُفَقَّر[4] وقرأنا فاتحة الكتاب حال الوداع وسألنا اللّه من فضله حسن الاجتماع.

 

ومِنْ حينَ فارقنا عزيز جنابهم
 

 

ما نالَنا مكروهٌ إلاّ فراقهم
 

فأسأل ربّي أن يطيل بقائهم
 

 

ويُمدِد لي حتّى أنالَ لِقائهم
 

ولا برحوا في أسود العين شخصهم
 

 

مُقيمٌ، و سوداء الفؤاد مَقرُّهم
 

أَقَدراً عنى يوم التودّع دَمْعهم
 

 

فلا فرّق الرحمن شَمْلاً يضمّهم
 

وسألتُ ربّي بعد أن عاد ركبهم
 

 

يخصّهم في كلّ خيرٍ يعمّهم
 

 

وبِتْنا تلك الليلة بمنزلة دنون، وما وصلناها إلاّ بعد نوم العيون، وكان سيرنا خمسة من الساعات، ومنها سِرْنا إلى الصنمين، فرأينا آثار مَن سَبَقَنا من الركب الشامي، في غاية الحين، وكان سيرنا عشر ساعات، وقمنا منها إلى المزيريب، فوصلناها بعد مضيّ خمس ساعات، ضحوة نهار الخميس، وأقمنا بها النهار المذكور والجمعة والسبت، واستهللنا الشهر المبارك بالمنزل المذكور وهو [ذو] القعدة الحرام، وتوجّهنا ضحوة نهاره نهار الأحد المشكور إلى المَفْرَق في ثالث ساعة من النهار إلى سابع ساعة منه، فكان سيرنا أربع ساعات، ونزلنا المَفْرَق، ولم ينصب الناس إلاّ بعض الخيام، وكنّا ممّن نَصَبَ من غير نَصبٍ، واستقمنا حتّى غَلَّينا وعلّقنا وتعشّينا وصلّينا المغرب، وركبنا على بركة اللّه، فوصلنا الزرقاء بعد الظهر من نهار الاثنين، فكان سيرنا عشرين ساعة، فإذا هو قناق مُتعب قبيح ذات ظهور وبطون، يبتغي ماشيه تارةً نفقاً في الأرض، وتارةً سُلَّماً في السماء، فَوَصَلَنا وأرفاقنا و دوابّنا من التعب و النَصَب عن جانبٍ عظيم، وحين حللنا بها، وأكلنا وشربنا وذبحنا وطبخنا، نسينا ما سحبنا من الجفاء من أعطانها.

ثمّ توجّهنا نهار الثلاثة في الساعة الرابعة على بركة اللّه، ونقلنا معنا الماء إلى القطرانة، ومررنا على البلاطة، وفطرنا خلف البيرق، وكنّا مع أصحاب اليمين ـ وللّه‏ الحمد ـ فوصلناها طلوع الشمس، وكان سيرنا ثمانية عشر ساعة، ثمّ رحلنا من البلقة في الساعة السادسة من نهار الأربعاء، وصلنا القطرانة نهار الخميس طلوع الشمس، فكان سيرنا خمس عشر ساعة، وإذا هو قناق متعب في أثنائه وادٍ يُقال له وادي النسور، وشِعابٍ كثيرة، وأمّا قلعة القطرانة فهي قلعةٌ لطيفة ذات عمارة معتبرة، محكمة التربيع، مشيَّدة البناء بالأحجار البيض والكلس والمؤن، ولها بابٌ معتبر من الجهة القبليّة، وكان ماؤها متغيّر، فسألنا عنه، فقيل لنا: إنّ مائها يجتمع من المطر والسَّيل، وأنّ السَّنة ما جاءها ماءٌ جديد، وإنّ هذا من العام الماضي، وأقمنا قُربها إلى وقت الأصيل وزعق النفير، فما حمل الحاجّ إلاّ وصار المغرب، فصلّيناها في القناق، وسِرنا على بركة الملك الخلاّق إلى الحَسا، فوصلناها بعد طلوع الشمس بساعتين، فإذا هو قناق متعب شبن في أثنائه شِعاب و وديان، وسمعنا بعض القوم يعبّرون عنها بالأسا، ولم يوجد فيها شيء من الزخائر[5] أصلاً، وكان سيرَنا إليها ستّة عشر ساعة، وقمنا منها بعد العصر، قاصدين عنزة، ونقلنا الماء معنا من الحساء، فوصلنا عنزة بعد طلوع الشمس بساعة، فإذا هي دارٌ واسعة، ورحمة اللّه أوسع، وتنبئ عن خان عظيم آثار الملوك عليه.

 

إنّ الــبناء إذا تـعاظم أمره               فيه الدليل على عظيم الباني

 

غير أنّه خراب، وبعض جُدُره متساقطة، وكان مسافة سيره خمسة عشر ساعة، ولم نجد في ذلك القناق شيئاً من الحطب، بل استقضوا في هذا القناق، والمذكور قبله حطب الشيح النابت في صحراهما، ثمّ سِرنا على بركة اللّه بعد المغرب إلى معان. مشينا سبع ساعاتٍ من اللّيل، وبَرَّكنا قُرب وادي السوخ إلى الصباح، فصلّينا الصبح، ومشينا فدخلناها طلوع الشمس، فكان سيرنا ثمان ساعات، فإذا مدخلها أتعب من مخرجها، ومخرجها أتعب من مدخلها، ذات آكام وآجام، وبطون أودية، وظهور أندية، ذات شعاب متفرّقة، متحطّمة بأحجارها، قبيحة بأخبارها، أضيق من أهلها، الزخائر فيها قليلة، والشرور فيها كثيرة، أقمنا فيها ثمانية عشر ساعة، وخرجنا منها بعد الزوال في سابع ساعة، وحملنا الماء معنا من منزلتها، وتوجّهنا على بركة اللّه إلى ظهر العقبة، فإذا هو قناق سهل، رأينا في أثنائه شجرة كبيرة، والناس حولها يلعبون ويضحكون، وبعض الشباب حولها يطوفون، فسألنا عنها، فقيل لنا: اسمها اُمّ عيّاش، وإذا مرَّ الناس عليها يضحكون على بعض المغفَّلين، ويقولون له: لا يصحّ حجّك يا لاش، ما لم تطوف حول اُمّ عيّاش.

فوصلنا إلى ظَهر العقبة بعد طلوع الشمس بدون الساعة، فكان سيرنا تسعة عشر ساعة، وأقمنا قليلاً، بعد أن ارتاحت الأوادم، وعُلِّقت الجمال، وتوجّهنا بعد صلاة الظهر في الساعة السادسة إلى جفيمان، ونزلنا ظَهر العقبة بعد العصر، وصار للحجّاج تبريكة نفيسة، ارتاح بها الحجّ وتنفّس وأكل الحلاوات النفيسة، بعد أن سحبوا فيها من الضيق ما لا يخفى على التحقيق، ومِنَ القطارات والمتاعب ما إليه النهايات، وصلّوا المغرب في التبريكة، وساروا على بركة اللّه الرحمن، فمع الشمس وصلنا خفيمان، فكان سيرنا إليها خمسة عشر ساعة، جميعها كَدٌّ و سعي، من غير التبريكة ومن غير أوقات الصلوات فغير محسوب في السير المطلوب، فإذا هي منزلٌ رَحيب سهل الفضاء متّسع الرمضاء، فسألنا عن جفيمان ما جفيمان؟ فدلّونا على تلٍّ هناك يدعى بجغيمان، فأقمنا عنده برهةً من الزمان حتّى غلّينا وعلّقنا، وسِرنا على بركة اللّه في سابع ساعة من النهار.

هذا والمياه معنا منقولة من معان إلى ظهر العقبة إلى جغيمان إلى ذات حجّ، فوصلنا ذات حجّ بعد مضيّ سبع ساعات من اللّيل، فإذا هو منزلٌ رحبٌ يُنبئ عن قلعة مُحكمَة البناء، مشيّدة البناء، في حائطها بركة ماءٍ يخرج إليها الماء من باطن القلعة إلى الخارج، وكان ماءها قليل، متغيّر اللّون والطَعم، وفي أثناء طريقها محلّ ذات أحقاف من الرّمل، فسألنا عنه ما يقال لهذا المحلّ؟ فقيل: يُدعى بـ (حالات عمّار)، ورأينا في القلعة المذكورة صائرٌ بعض خلل، ويقولون إنّه من العرب، وهو أنّه في سنة ثمانية عشرة ومائة وألف سقط نصف جدارها الغربي إلى عضاضة بابها، وقد مالَ الباب إلى الآن ولم يسقط، وكان حولها بيوتٌ صغار سكن بعض الأعراب، شكل قرية، فَخَلَتْ من أهلها، ولم يبق في القلعة ولا في جوارها من الكور أحدٌ. ودخل حضرة الباشا المكرَّم، دارَ في جهاتها، وطلع إلى أعلاها، ودارَ على بدنها وما يليها، واطّلع على ظواهرها وخوافيها، ليخبر السلطنة العليّة فيها، ويُعيدها كما كانت، إن شاء اللّه. وكان السَّير إليها ثمان ساعات.

ثمّ قمنا من ذات حجّ في ثامن ساعة من النهار، فوصلنا القاع طلوع الشمس، فإذا هي منزلٌ رحيب، فسيح المجال، والماء مصحوب معنا من ذات حجّ، فكان سيرنا إليها أربعة عشر ساعة، و قمنا من القاع إلى تبوك، دخلناها في سادس ساعة من اللّيل، فكان سيرنا ثمان ساعات، وساعة رياضة بعد صلاة العشاء، فإذا هي منزلٌ رحيب، فيه قلعة عظيمة البناء والترتيب، والمفني فيها جند من قول السلطان، وماءٌ كثير، شربنا وحمّلنا إلى الاُخيضر، لأنّهم ذكروا لحضرة الباشا أنّ الاُخَيضر قليلة الماء، وأنّ فيها بِرْكة لبني منجك، وبِركة لبني مزلق، وأنّهما في هذه السنة ما أوصلا العرب صُرَّهما، ولم يصر لهما تعزيل، فنبّه الباشا على حمل الماء ـ جزاه اللّه خيراً.

ثمّ قمنا من قلعة تبوك إلى الاُخيضر على بركة اللّه، فوصلناها بعد مضيّ أربع ساعات من اللّيل، فكان السير عشرين ساعة، إلاّ أنّه صار رياضتين قرب ساعتين، فصحّ سيرنا ثمانية عشر ساعة، فإذا هو قناق متعب ذو شعاب وضروب وبغازات ونقوب، يعبَّر عنها بنقب الاُخيضر، فوصلنا إلى قلعة عظيمة البناء والصورة، بجُند مولانا السلطان معمورة، وإن لم تكن بالخيرات مغمورة، لكن مائها كثير ـ وللّه‏ الحمد ـ بضدّ ما عرّفوا مولانا الوزير، ولم يوجد فيها من الزخائر إلاّ القليل، وبِتْنا تلك اللّيلة في رِحابها، وجاءنا تلك اللّيلة مطرٌ عظيم، غرق من الإبل رحالها.

 

ولمّا أنخنا بالاُخيضر رَحْلَنا
 

 

ونحنُ لما نِلناه في شدَّة النَصَب
 

أناخت علينا من بروق رعودها
 

 

سحابةُ مُزنٍ صيّرت سيرنا خَبَب
 

 

 

ثمّ خرجنا منها ثاني يوم وصولها، وقد كان باقي من النهار خمس ساعات، على بَرَكة العظيم الأعظم، فوصلنا بعد مضيّ ساعتين من النهار الثاني إلى قلعة المعظم، فكان ترحالنا عشرين ساعة، ضاع منها ثلاث ساعات رياضات في محلّ الصلوات، فكان جدّ السير سبعة عشر ساعة، لكن نِلْنا من مسافتها من المشاقّ ما لا يُطاق، من أماكن تُعرف بجناين القاضي، والصاني، والنقب، ومن الغدران والغيلان، وضيق المسالك في النقوب بين الحجّاج والدوابّ والمحامل والركاب، وتعب كلّ من أُولئك غاية التعب، فلمّا وصلناها إذا هي قلعة عظيمة البناء، لا نسبة لغيرها بها، وعلى كلّ حال.

 

إنّ الــبناء إذا تعاظَم أمرهُ                             فيه الدليل على عظيم الباني

 

إلاّ أنّها معطّلة قفراء، ومن أهلها مستوحشة صفراء، وفي بِركتها قليلُ ماءٍ من المطر، سألنا عنها فقيل لنا؛ إنّ بئرها نشف ماؤه وتعطّل، وصار سابقاً بين محافظها والعرب عداوة قديمة، آلَت إلى تركها، ثمّ قمنا منها على بركة اللّه تعالى، وكان باقي من اللّيل ستّ ساعات، إلى أن مضى من النهار عشر ساعات، وصلنا الدار الحمراء، وبِتْنا تلك اللّيلة من غير خيام، والماء معنا من الاُخيضر، فكان سيرنا ستّة عشر ساعة، ثمّ قمنا وقد كان باقي من اللّيل خمس ساعات إلى المداين، فوصلناها بعد التعب الباين، وقد مضى من النهار سبع ساعات، فكان سيرنا اثنى عشر ساعة، فإذا هو قناق متعب حطم، في أثنائه محلّ يُقال له الزلاقات، وبعده شقّ العجوز، وبعده مَبْرك الناقة، ويالها من أماكن، لكلّ متحرّك وساكن، وبِتْنا تلك اللّيلة في منزل المداين استقينا، ومن المنام استوفينا، وصلّينا الصبح في المنزل وأغدينا، فوصلنا العُلا بعد مضيّ أربع ساعات من النهار المرقوم، وكان نهار الجمعة المبرور عشري [ذي] القعدة الحرام، ولم نرَ فيها شيئاً من الزخائر، والسبب أنّ الجراد في العام الماضي أثّر عندهم، وشوّش عليهم، فما كان إلاّ التبن وبعض تمر وقليل ليمون وبعض دبايح، وبِتْنا تلك اللّيلة وثاني يوم نهار السبت إلى بعض الظهر، وكان باقي من النهار أربع ساعات.

فتوجّهنا على بركة اللّه بعد أن كتبنا المكاتيب، وأعطيناها إلى الكُتّاب، وتوجّهنا على مطران، فوصلناها بعد طلوع الشمس بساعة، فكان سيرنا إليها ثمانية عشر ساعة، وأقمنا بها إلى أن غلّينا و علّقنا، والماء معنا منقول من العُلا، والشعير قد خلص من عندنا وعند غيرنا، فصرنا نحن وغالب الحاجّ نعلّق على البغال المعبوك يفركوه بالماء ويوضع في المخالي، وبعض خيّالة رأيناه يشتري كلّ مُدٍّ بقرش صحيح، وقد تاهَ الدليل تلك اللّيلة، وتعب الحاجّ تعبَ كثير. ومنها سِرنا إلى شِعب النعام، وقد كان باقي من النهار أربع ساعات، فوصلنا القناق أوّل الفجر، فكان سيرنا ستّة عشرة ساعة، فإذا هو قناق مُتعب، ذو ظهور وبطون، وأحجار وغيلان. وفي أثناء الطريق وادي مُتعب يقال له وادي الناء وبعده محلٌّ يُقال له البير الجديد، استقى منه بعض الحاجّ، ونقل منه غالب السقاية الماء إلى الشعب المذكور، ثمّ قمنا إلى هدية، وكان باقي من النهار أربع ساعات، فوصلناها بعد طلوع الشمس بساعة، فإذا هو منزلٌ لا بأس به، غير أنّ الغيلان في دربها كثير، ووجدنا من السيل في أفنائها نهرٌ عظيم يدور على ثلاثة أضرب، كأنّه ثلاثة أنهر، سألنا عنه فقيل: قد جاء في صحراء العراق سَيلٌ كثير عرمرم، وهذا ممتدّ منه، وكان قناقها ثمانية عشر ساعة، ثمّ قمنا منها إلى الفَحْلتَينْ، وكان باقي من النهار ساعتين، إلى أن مضى من النهار الثاني خمس ساعات، فنزلنا قاطع الفحلتَين، والمياه معنا من العُلا، ومن هدية من السيل المذكور، لكنّه قناق متعب، نال الحاجّ منه غاية التَعَب والنَصَب، وفي أثنائه عقبة يُقال لها العقبة السوداء ـ على ما سُمِّيت ـ نال الحاجّ منها التعب، وتقطّعت القطر، وتاهَ إلى الناس بعض جمال وأبغال وأحمال، وما زاد في عيبها إلاّ تطاولها، وقد بلغ السير عشرين ساعة، وفي جُلّ القضيّة وتمامها أنزل اللّه سحابةَ مطرٍ ـ ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏.

تراكمت الأتعاب من كلّ وجهةٍ                       ومعظمها أن كادت النفس تزهقُ

ثمّ سِرنا من المنزل المذكور إلى المنزل المشكور، وهو المدينة المعظّمة ـ على الحالّ بها أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ وتلألأت الأنوار، ونسينا ما نالنا من سابقة ذلك النهار. و مررنا على وادي العقيق، فصِرنا نظنّه مناماً، ولا تظنّه على التحقيق ـ وللّه‏ الحمد ـ وقلتُ ارتجالاً:

ولمّا غَشَتْ وادي العقيق جِمالُنا
 

 

ونحنُ بحمد اللّه في غاية الصفا
 

وكان محلّ الفجر فانفجرت لنا
 

 

مفاتيح أنوار النبيّ المصطفا
 

وكان نهار للخميس مباركٌ
 

 

وليلته الغرّا العروبة[6] ألطفا
 

فيا سَعدَ من أيّام سعدٍ وطيبها
 

 

بطيبة لو منَّتْ عَلَيَّ فتُصطفا
 

 

 

فدخلنا المدينة المنوّرة نهار الخميس المبارك، محلّ الظهر، فكان سيرنا عشرين ساعة، والقانون المألوف أنّ من هدية إلى المدينة ثلاثة مراحل، فحضرة الباشا لأجل العليق عملها شَيْلَتَيْن، وكلّف الناس هاتين المسافَتَين. وللّه‏ الحمد، قد أقبلنا على أنوار عظيمة، ومشاهد كريمة، أقمنا بها ثلاثة أيّام بلياليها، ويا لها من أيّام و:

 

من ليالي لو تُباع شريتُها
 

 

بمالي وما ضمَّت يداي وما أهوى
 

وأسألُ ربّي أن تُعاد قريبةً
 

 

وبُشرة نفسي[7] في مُناها وما تهوى
 

 

وصرفناها ـ وللّه‏ الحمد ـ في عبادات وزيارات، وقراءة قرآن، ومشاهدة مشاهِد عظام، نسأله من فضله القبول.

 

[من المدينة النبويّة إلى مكّة المعظّمّه]

وخرجنا منها بالكُره، نهار الأحد بعد الظهر على الشهداء.

 

خرجتُ على رغمي وعزّ خروجها
 

 

علَيَّ ولكنّ هكذا قدّر اللّه
 

 

لأنّ حضرة الباشا المذكور ذكر أنّه تعوق في المدينة بزايد يوم، فاختار أن يجعل من المدينة إلى بدر قناقين، فكلّف الناس ذلك، فكادوا أن يقعوا في المهالك، مشينا ظهر الأحد إلى الأبيار، أحرمنا ـ وللّه‏ الحمد ـ بعد أن اغتسلنا ومن معنا وصلّينا في المسجدين[8] الظهرين، ومشينا بقيّة النهار وثاني يوم إلى قُبيل الظهر نزلوا قرب بير ذات العلم، وقد تفرّجنا على البئر، فإذا هو كبيرٌ موهِل مُوحِش، وكان السير إليه ثمانية عشر ساعة، وخرجنا من المحلّ قبل المغرب بساعتين، ورأينا الهلال تلك اللّيلة ابن ليليتَين في صلاة المغرب، ومشوا على بركة اللّه إلى بدر، وصلوها وكان باقي من النهار خمس ساعات، فكان سيرنا جملته عشرين ساعة، لكن قد وصلناها، والأنفس قد بلغتْ حَدّ التراق، والجِمال والدّواب وقفوا على ساقٍ، وبِتْنا تلك اللّيلة في بدر، ونحنُ في حالةٍ كالبدر.

و إذا في التنبيه أنّ الشيل بعد صلاة المغرب، فضاجة الناس لذلك، لكون الأنفس زهقتْ، والدّواب هلَكتْ، فعاد حضرة[9] قاضي مكّة ـ سلّمه اللّه ـ أرسل إليه باچ چاويش يعرّفه حال الناس، وما هم فيه من التعب، ففي الحال أجاب الجواب، المنادي ينادي ما فيه شَيْل إلى غدٍ ضحوة النهار، ورفعوا الإشارات، وصار عند الناس فرحة كبيرة وبشارات، وكان من جملة ما وقع للحاجّ في اللّيلة الماضية وهم في قرب الجديدة في محلّ نصف اللّيل لقزت الجِمال ونفَرَت وصارت حالة مزعجة، وقع غالب الركّاب، وفُقد بعض أسباب سقطتْ، وفي الحال لُقِطَتْ، وما كان إلاّ شيطانٌ دخل بين تلك القطارات، مع أنّ الناس دائماً في التلبية والذِّكر والتسبيح، إلاّ في تلك الحصّة كانت ساعة سكوت وجلال، ولكنّ اللّه سلَّم.

قد دخلنا بدراً، ودُرنا في رحابها، فإذا هي بلدةٌ كبيرة عظيمة فيها مسجد يُقال له مسجد الغمامة، زُرْناه وصلّينا فيه، ودَعونا لأولادنا وإخواننا، وهو جامعٌ تُقام فيه الجمعة، يشتمل على منبرٍ قديم البناء، وزُرْنا شهداء بدر فوق المسجد المرقوم بحصنه، وفي هذه البلدة سوقٌ كبير ظننّا أنّه يقوم أيّام الحجّ فقط، فأخبرني رجلٌ من أهله أنّه هكذا طول السنة لا يفتر، وأنّ عليه مردّ من البحر، من الينبع مسافة يوم، وفي السوق المرقوم قهوتان كالّتي في مكّة في محلّ اُمّ عابدة.

وتوجّهنا من بدر وكان الباقي من النهار أربع ساعات إلى القاع، دخلناها طلوع الشمس، كان سيرها سبعة عشر ساعة برياضاتها، وكان قناق متّسع رحِب، وصار للجِمال في ليلته جفلتان، إلاّ ذكروا أنّ في هذا القناق دائماً يصير جفلة.

وفي أثناء هذا القاع سبيلان عظيمان، كلّ سبيل يشتمل على مسجد وبئر ماء وصهريج كبير، وعليه قُبَبٌ، لكن خراب من تقادم الزمان وتغيّر الأيّام، بين كلّ سبيلٍ وسبيل خمس ستّ ساعات.

وقمنا من القاع إلى رابُغ، وكان باقي من النهار أربع ساعات، فوصلنا وقد مضى من اللّيل عشر ساعات، فكان سيرنا أربعة عشر ساعة، فإذا هو قناق واسعٌ عظيم الاتّساع، في أثنائه قريةٌ يُقال لها المستورة، مررنا عليها وقت صلاة المغرب، ونقلنا الماء معنا من بدر إلى القاع، ثمّ إلى رابُغ، وأحرَمَت الحنفيّة من رابُغ، وعلقوا على الجِمال، وشال الحجّ إلى قُديد، وكان باقي من النهار خمس ساعات إلى أن مضى من النهار الثاني خمس ساعات، فكان السير أربعة وعشرين ساعة، فإذا هو قناقٌ مُتعبٌ صعبٌ، ذو تلالٍ ورِمال وقلايات صعاب، وتاهَ الدليل، وضلَّ الجادّة والسبيل، وفي صباحه يَسَّر اللّه و وقطعنا عقبة السك، وإذا هي عقبةٌ متعبةٌ مَهولةٌ، تطلع فيها إلى جبل من الرَّمل، وتنزل إلى بحرٍ من الرّمل، نزلنا و أقمنا إلى أن بقي من النهار خمس ساعات، وتوجّهنا، وإلى وادي فاطمة قصدنا، فوصلناه مثل الوقت الذي مشيناه، فكان سيرنا أربعة وعشرين ساعة، لكن صار رياضات فيه.

وفي القناق الذي قبله ساعتين، فتحرّر كلّ قناق اثنين وعشرين ساعة، لكن في هذا القناق مررنا على خليص قُبيل المغرب، وعلى مدرَّج عسفان ربع اللّيل، وعلى سبيل الجوقي، بعد مضيّ نصف اللّيل وصلنا وادي فاطمة، وكان باقي من النهار خمس ساعات كما حرّرنا. بِتْنا تلك اللّيلة، وفي الصباح أغدينا اتّجاه مكّة المشرّفة، وهو نهار الاثنين يوم التروية، الثامن من شهر [ذي] الحجّة الحرام، وصلنا بعد مضيّ خمس ساعات من النهار المرقوم، نزلنا اُمّ عابدة، بِمَن معنا من الأرفاق والأتباع والحجّاج، وكان جملتنا ثلاثة وثلاثين نفر، وضربنا الخيام؛ واحدةٌ لنا، واحدة للنساء، والثالثة للأتباع.

 

[في مكّة المعظّمة والمواقف المشرّفة]

تغدّينا وارتحنا، وبالحال نزحنا، ولمكّة المشرّفة توجّهنا، وبمحلّ السيّد الشريف محمّد ابن السيّد عليّ بن حيدر حللْنا، فسلّمنا عليه، وذلك بعد أن كان قد وصل كتابنا إليه. ثمّ نزلنا إلى المسجد الحرام، وقبّلنا الرُّكن، وطُفْنا في ذلك المطاف، وصلّينا في ذلك المقام، و دَعَونا لكم ولسائر الإخوان، وشربنا من زمزم، واغتسلنا، ومن باب الصفا خرجنا، و إلى المروة سبعة أشواط في طاعة اللّه سَعَينا، وقَصَّرْنا. ثمّ إلى المسجد الحرام عُدْنا، فنوينا الحجّ من تحت الميزاب، وعقدنا ثياب الإحرام، ولبّينا، ثمّ شدّينا من اُمّ عابدة، ومن اُمّ عابدة[10] إلى عرفات ثلاث ساعات، بعد العشاء نزلنا عرفة، فيالها من ليلةٍ مؤتلفة، نِلْنا بها المراد، وحمدتُ اللّه ربّ العباد، والحمد للّه‏ ربّ العالمين. وكانت ليلةٌ عظيمة الشأن في السِّرّ والإعلان، وأصبحنا نهار الثلاثة الوقفة المباركة، في جمعيّتنا مع قومنا وأحبّتنا.

وقد شَرَّفَنا السيّد الأجلّ الأمجد المرقوم أوّلاً السيّد محمّد حيدر، مع ولديه العزيزين؛ السيّد رضيّ الدِّين و السيّد عليّ، وكان نهار عبادة ودعاء إلى أن غرُبت لنا الشمس، فنفرنا مع حضرة الباشا أمير الحاجّ الشامي، وتوجّهنا إلى المزدلفة، وجمعنا العشائين، وباتَ كلٌّ منّا ـ وللّه‏ الحمد ـ قرير العين. وقد واجهنا في طريقها المبارك حجٌّ مقبل علينا، فسألنا عنه، فقيل لنا: حجٌّ مخلَّط أعجام، وما هذه يُقال له الحجّ العقيلي، وقد دخل مكّة بعد العصر وصار له غاية الحصر، فبعضهم طاف وسعى، وتمّم حجّه بالتمتّع على الوجه الاضطراري، ووقف بعرفة ليلاً، وبعضهم نقل تمتّعه إلى الإفراد، ووقع في بلاءٍ بين العباد.

وأمّا نحنُ فقد لقطنا الجمار ولكم الهنا، وتوجّهنا بعد طلوع الشمس إلى مِنى، رَمَينا، وذبحنا، وحلقنا، ثمّ نزلنا للمسجد الحرام، طُفْنا و سَعَينا، وعُدْنا إلى مِنى، تمام العيد أقمنا، وتفارقنا من هناك، كما هو المفهوم، وصار لكلٍّ من ربعنا ومنّا شِربٌ معلوم. دخلنا مكّة المشرّفة بعد العصر، فيا لهُ من نهارٍ مشهود، أعاده اللّه عليكم وأعادكم لأمثاله.

كان منزلنا بيت السيّد الأمجد المذكور أوّلاً؛ السيّد محمّد بن عليّ بن حيدر ـ أمدَّ اللّه أيّامه، وجمّل فيه زمانه، ولا زال مصدر القاصدين، وكعبة الوافدين، بحُرمة أجداده الطاهرين، وحفظ اللّه عليه ولديه الأعزّين عليّ الأصغر، وشقيقه الكبير رضيّ الدِّين ـ و أقمنا مجاوري بيت اللّه الحرام ـ و للّه‏ الحمد ـ والخمس فرائض نؤدّيها اتّجاه البيت الشريف بُلغة أيّامنا في تلك المجاورة أربعين يوماً، أتينا في أثنائها ـ وللّه‏ الحمد ـ بعمرةٍ مفردة، و زُرنا الأماكن المكرّمة والمدافن المعظّمة ـ وللّه‏ الحمد ـ وحضرنا ليلة النوروز المبارك، وكان ليلة التاسع من المحرّم، بعد مضيّ خمسة وخمسين درجة من المغرب، وكانت جمعيّة مباركة في منزل السيّد محمّد المرقوم ـ سلّمه اللّه ـ مع جمع الأشراف والأحبّة.

في نهار السبت رابع المحرّم الحرام افتتاح سنة إحدى وعشرين بعد المائة والألف ـ أحسن اللّه ختامها ـ وختمنا من القرآن العظيم اتّجاه البيت الشريف ثلاثة ختم، وأهديناهم لوالدينا ولبعض أهالينا، ونسأله من فضله القبول. وفي هذه المدّة تردّدنا على الشريف المكرّم حامي حِمى بيت اللّه الحرام حالاً الشريف عبد الكريم، وابني عمّه الشريف عبد المحسن والشريف يحيى ـ أدام اللّه أيّامهم ـ وصار لنا منهم ـ و للّه الحمد ـ الإكرام الزايد، واجتمعنا بأعيان مكّة المشرّفة مجملاً ومفصّلاً، وبِتْنا في الحرم الشريف ليلة، وكانت ليلة جمعة مباركة، وكانت ليلة عبادة ـ وللّه‏ الحمد ـ وفي صبيحتها دخلنا داخل البيت العظيم الحرام، وسألنا اللّه المغفرة لنا ولوالدينا ولأولادنا ولإخواننا جميعاً، وكانت مجاورتنا نعمةٌ غير مترقّبة ـ وللّه‏ الحمد ـ ختمنا فيها ثلاث ختم من القرآن العظيم اتّجاه البيت الشريف، وفي إقامتنا جميعها ما صلّينا فريضة خارج الحرم أصلاً ـ وللّه‏ الحمد ـ بل الخمس أوقات نؤدّيها بأوقاتها في الحرم الشريف.

ثمّ بعد تمام المدّة المرقومة عزمنا على التوجّه لتقبيل أعتاب الرسول العظيم والنبيّ الكريم ـ عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم ـ صحبة مولانا الشريف مبارك أخو عبد المحسن، لأنّه كان متوجّه إلى زيارة الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم، فتوجّهنا نهار الثلاثة إلى الأبطح، وكان نهار الرابع عشر من المحرّم المرقوم، فأقمنا في الأبطح المزبور ثلاثة عشر يوماً، حتّى جمعوا فيها دورما من الأعجام ما مقداره من الذهب السكّة أربعين ألف أحمراً طرليساً ـ لطف اللّه بهم ـ وممّا نالنا من العوارض في ليلة الحادي والعشرين من الشهر المرقوم أن قُمنا من النوم رأينا جميع أسبابنا مسروقة من الخيمة بالاستغراق، ولم يبق لنا إلاّ ما كان منّا في الأعناق، وكذلك ولد اُختنا السيّد حسن و والدته وبعض أرفاقنا وأتباعنا، ونسأل اللّه العافية، وغالب النحاس، ودبّتين ملائتين سمناً، فتوجّهنا إلى الشريف، وأشكينا له بكمال التعريف، فأرسل من جانبه الكريم من يقصّ الأثر، ويجيب الخبر، فذهبوا وعادوا، وقصّوا الخبر، واستجادوا، فرأوا في الأثر ما كان من بعض مكاتيب وأسباب لا ينتفعون بها، كمسد وقلشيز وقاووق و بابوج جديد، فأتوا بهم، وأخبروا حضرة الشريف، وأنّ اللّصوص ثلاثة، وأنّهم من هُذيل، فمسكوا شيخهم، ووضعوه في السجن والحديد، فاستقام يومين ولم يظهر لهم أثَر، فأكثرنا الكلام على حضرة الشريف حتّى قد انحصر، وأمر بالمحبوس أن يُشنَق، فشفع فيه بعض العمّال، وأخذوا له مهلة، لعلّ يظهر لهذا الأمر حال، ثمّ ضاق أمرنا وعزمنا على السير، فعاد حضرة الشريف خيّرنا بين الإقامة والسفر، فتخيّرنا السفر، و وكّلنا في طلب ذلك جناب مولانا السيّد المحترم السيّد محمّد حيدر، بمعرفة حضرة الشريف على يد حضرة عبد القادر أفندي الصديقي المفتي الحنفي بمكّة المكرّمة، وكتبنا له وكالة ودفتراً بمفردات الأسباب، وختمناه وسلّمناه إلى السيّد المرقوم.

 

[من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة]

وتوجّهنا على بركة اللّه تعالى نهار الاثنين السابع والعشرين من المحرّم المرقوم إلى وادي فاطمة على بركة اللّه تعالى، ونسأله ا لعافية، وتشوّش السيّد إسماعيل في أثناء ذلك كم يوم، وعافاه اللّه تعالى. ثمّ رأينا هلال صفر بالوادي المرقوم ليلة الجمعة، وتوجّهنا على المدينة المنوّرة ـ على الحالّ فيها أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ وجائنا ليلة الهلال المرقومة سَيلة عظيمة من قُبيل المغرب إلى العشاء، وكانت ساعة موهلة، ما نشفت أسباب الناس والخيام لثاني يوم، وفى هذه ماجراوية (أي الحادثة) المرقومة والحالة المذمومة قلتُ أبياتاً ارتجازاً (من الرّجز) على طريق المجاز، وإن لم تكن شيئاً و إلاّ إشغال وقت (أي تسلية).

 

 

ولـولا المُزعجات (أي المُرهِبة) من اللّيـالي

    لما عَرف (لما ترك لغة) القطا طيب المناحي

 

وهي هذه:

 

الحمدُ للّه‏ الذي لا يُرام[11]
 

 

والشكر للّه‏ الذي لا يُضام[12]
 

نُنهي إليكم بعض ما قد جرى
 

 

في آخر اللّيل بجنح الظلام
 

في منزل الأبطح يا سائلي
 

 

أسرَّكَ اللّه بتلك الخيام
 

لمّا انقضت أيّامنا من مِنى
 

 

عُدنا إلى البيت العتيق الحرام
 

جاورنا فيه كما قد قضى
 

 

إلهُنا ميعاد موسى تمام[13]
 

ثمّ خرجنا منه للأبطح العالي
 

 

الرّحيب الأشرفيّ المقام
 

بِتْنا به سبع ليالٍ مَضَتْ
 

 

ما خِلتُها إلاّ كطيب المنام
 

وليلة الثامن يا سيّدي
 

 

قد نالَنا فيها أشدّ المَلام
 

في داخل الخيمة خمس رقود
 

 

وخمسة خارجها من قيام
 

جاء لُصوصٌ لا تروا مثلهم
 

 

في آخر اللّيل وكلٌّ نيام
 

حازوا من الخيمة ما ينبغي
 

 

حمل به أسبابنا بالتمام
 

وبعضُ أسبابٍ لِأرفاقنا
 

 

و دُبّتي السمن تحت الحزام
 

وفردة فيها النحاس الذي
 

 

ندعوه بالمطبخ بين الأنام
 

قُمنا قُبيل الفجر ميعادنا
 

 

شُفْنا أُموراً ما لها انتظام
 

ناديتُ مَنْ قد كان في قُربنا
 

 

قال: أُخِذْنا، جَلَّ مَن لا يَنام
 

جانا قضاءٌ صائبٌ نافذٌ
 

 

حَلَّ بِنا من دون تلك الخيام
 

أخذوا وما أبْقَوْا، بلى قد بقي
 

 

بعض أثاثٍ بَل وبعض الحُطام
 

ومصحفنا المعلوم مع كُتْبِنا
 

 

مع المكاتيب وسرخ عظام
 

قد صانهم ربّ الكتاب العظيم
 

 

الواحد الفرد الحفيظ السلام
 

لو لم يكن هذا ولا ذا ولا
 

 

كنّا بقينا يا خليلي تمام
 

لكنّ لطف اللّه فيما قضى
 

 

مع خلقه لا تدركه الأنام
 

رُحنا إلى عبد الكريم الشريف
 

 

أقامه اللّه ليوم القيام
 

وإلى ابن زيدٍ مُحسنٍ صنوه
 

 

وزيره القائم له بالمقام
 

قلنا وأشكينا الذي قد جرى
 

 

فقال: سُبحان الذي لا يَنام
 

دَعي بهتان الذي يُدَّعى
 

 

بالقائد الحاكم قوم الزمام
 

وقال: أُرْسِلُ مَنْ يقصّ الأثر
 

 

ولا تهاون[14] تلقى مني الالمام
 

أَرْسَل في الحال فَقَصَّوا الأثر
 

 

حتّى أتوا موضع قسم الحطام
 

رأوا بعض آثار وفعلٍ جديد
 

 

أيضاً وقادوت لابن الكرام
 

عادوا وأحكوا للشريف الكلام
 

 

وعرّفوه[15] من هذيل الحرام
 

أرسل قبض منهم ثلاثة شيوخ
 

 

وحطّهم في الحال وسط الظلام
 

قالوا لَنَسْعى مَنْ يكون الذي
 

 

سَرِق وننظر ما يكون الكلام
 

قال: خذوا هذا اصلبوه قوّام
 

 

واثنين أَبْقوهم ليأتي الكلام
 

فلم توافي الصلب وجهاً له
 

 

شرعاً ولا نقلاً ولكن حرام
 

فعادَ في الزنجير[16] مستودَعٌ
 

 

ثلاث أيّام ورابع تمام
 

مشى الحجوج أرفاقنا في الصباح
 

 

ولم يسعنا عنهم من قيام
 

عُدنا إلى عبد الكريم الشريف
 

 

قلنا له: ما الحال في ذي المقام
 

فقال: إمّا امكثوا عندنا
 

 

أو وَكِّلُوا مَن شِئْتُمُ في الأنام
 

في الحال وكَّلْنا الشريف العزيز
 

 

السيّد الأمجد ابن الكرام
 

محمّد ابن عليّ الذي يُدعى
 

 

ابن حيدر نالَ أعلى مقام
 

ثُمّ كتبنا مفردات الذي
 

 

سُرق وسلّمناه بين الأنام
 

في دفترٍ تاريخه قد أتى
 

 

إحدى وعشرين ومائة بعد ألفٍ تمام

 

ثُمّ خرجنا طالبين العوض
 

 

من بعد ذلك تعلموا و السّلام
 

 

 

[في المدينة الطيّبة]

ولنرجع إلى ما كنّا فيه، ثمّ إنّنا مع تيسير اللّه ومشيئته وصلنا المدينة المنوّرة، نهار الأربعاء، العشرين من شهر صفر المبارك، نزلنا في محلٍّ يُقال له فوق الحرّة، بين المدينة وسيّدنا حمزة، لكن عن المدينة أبعد، وإلى سيّدنا حمزة أقرب، أقمنا في جواره خمسة أيّام وخمس ليال، كُنّا نُصلّي الصّبح، وننزل نُقبِّل أعتاب النبيّ العظيم، ونستقيم إلى بعد صلاة العصر، ونخرج إلى الخيام، وكذلك نفعل في البقيع ـ على الحالّين فيه أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ وكانت أيّاماً من العمر، ويا لها مِن أيّام. نسأل اللّه من فضله ـ وهو أهل ذلك ـ أن يَمُنَّ علينا بالعود لتقبيل تلك الأعتاب، وبالإطّراح حول تلك الروضة العظيمة وتلك الأبواب، وبرمي الأثقال في ذلك الفناء.

هو الشفيع الذي تُرجى شفاعته                       لكلّ هولٍ من الأهوال [مقتحمُ]

وقد زرنا في مقام السيّد حمزة، مصعب بن عمير، وعبد اللّه بن جحش، وشمّاس بن عثمان بن مظعون.

وفي عصريّة الأحد رابع وعشرين الشهر المذكور ودّعنا النبيّ العظيم، صاحب اللّواء المنشور ـ عليه وعلى آل بيته الكرام أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ وودّعنا الصحابة الكرام وأودعنا عندهما العهد الذي نلقى اللّه تعالى عليه ـ رضي اللّه تعالى عنهم وأرضاهم ـ وودّعنا جدّتنا السيّدة الجليلة، صاحبة الفضل والفضيلة، السيّدة فاطمة ـ عليها أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ ثمّ خرجنا إلى البقيع وقبّلنا أعتاب الأئمّة العظام؛ الإمام الحسن، الإمام عليّ بن الحسين، الإمام محمّد الباقر، الإمام جعفر الصادق، والسيّد العبّاس رضي اللّه عنه، وودّعناهم، ووَدَعنا عهدنا عندهم وخرجنا من أعتابهم، نسأل اللّه من فضله العود ثمّ العود، إنّه أهل ذلك والقادر عليه.

وفي الصباح وهو الاثنين المبارك خامس وعشرين الشهر المذكور توجّهنا على بركة اللّه اتّجاه الحسا[17]، نسأل اللّه العافية والسلامة، وكان سيرنا تحت جبل اُحُد المشهور، ولمّا سِرْنا كان يسارنا، إلى أن أبعدنا عنه.

 

[من المدينة النبويّة إلى الأحساء]

وحين كُنّا في جوار سيّدنا حمزة، كان قريبٌ إلى منزلنا وهو جبلٌ عظيم له إضاءة ونور وعظم في مقداره، وذكروا لنا أنّ المسافة من الحسا إلى مكّة أتوها الحاجّ بثمانية عشر يوماً، وأنّ الإياب من مكّة إليها يبلغ خمسة وعشرين يوماً، فحمدنا اللّه على ذلك. وتوجّهنا كما ذكرنا ـ على بركة اللّه ـ نهار الاثنين المذكور، فكان انتهاء السير والوصول إليها نهار الأحد تاسع شهر ربيع الآخر، فكان جملة السير إليها ثلاثة وسبعين يوماً، ما عدا الإقامة في الأبطح، فسحبوا الناس في هذه المدّة ما شاء اللّه من المتاعب وتغيّر المياه وقلّة الزخائر، وسئموا من بعضهم لطوله وضيق الزخائر وغير ذلك، ولا شبهة أنّ السفر يسفِر عن أخلاق الرجال، وكان حملدارنا[18] رجلٌ مشهدي اسمه عبّاس، وكُنّا نعرفه أوّلاً بالإسم، ففي هذه المدّة اتّضح اسماً ورسماً، وقدر ما سحبنا منه من الحمق والجفا ما لا مزيد عليه، قلت:

 

عبّاس إن تعلم أوصافه
 

 

فاِسمه من بعض أوصافه
 

كان لنا علمُ به سابق
 

 

نجهل فيه قبح أخلاقه
 

حتّى اتّخذناه لنا سائساً
 

 

صِرنا له من بعض سيّاسه
 

لكن وقعنا والفصيح اللّبيب
 

 

إذا وقع يسكت من ذاته
 

ونسأل اللّه تمام الطريق
 

 

وقطعه مع قطع عاداته
 

 

وكان لنا أرفاق أخيار، أعرضنا عن التعرّض بذكرهم، إمّا رغبةً فيهم، أو رغبةً عنهم، وقلت فيهم:

قد كان لي في الأصدقا أخلّة
 

 

علمي بهم و بودّهم صدق الوفا
 

والودُّ فيما بيننا بكتابة
 

 

منّا ومنهم دائماً بتلطّفا
 

لكن ما لي معهم من عِشرةٍ
 

 

لتبيّن لي من طبعهم ما حقّقا
 

حتّى اصطحبنا معهم في سفرةٍ
 

 

قد أسفرَت عن وُدّهم بتكلّفا
 

فعلمت ما قد قا له القوم الاُولى
 

 

: لا غول، لا عنقا، لا خلّ وفا
 

لكنّني سايرتُهم و سبَرْتُهم
 

 

وتركتهم لا يعلموا طرق الوفا
 

عاملتهم شأت الأقابل بينهم
 

 

الهَجر أليق عن معاتبة الجفا
 

فَلْيَحْتَرِز أهل النُّهى عن مثلهم
 

 

لا خيرَ في ودٍّ يكون تكلُّفا
 

 

 

وفي هذه المسافة مررنا بقفارٍ عظام طوال عراض، لا يعلمهم إلاّ خالقهم سبحانه وتعالى، ومن الجملة محلٌّ يُقال له سدّ عنتر، لا يُوصَف غير أنّه سهلة عظيمة محيطةٌ بها جبال عِظام، والطلوع منها والدخول إلى هذا المحلّ لا يمكن إلاّ كما يسرب النمل قطاراً قطاراً، بين شِعاب الجبال إلى أن يلطف اللّه بعباده، ويخرجوا على غيرها، وفي هذه المسافة مررنا على بلاد نجد، فإذا هي بلاد عظيمة رحيبة البقاع، عظيمة الاتّساع، طيّبة الهوى، لطيفة الماء والرُّبا، وردنا منها ثلاثة من البلاد؛ الاُولى: يُقال لها نفي، والثانية بعد يومين يُقال لها ثرمداء، والثالثة بعد يومين دخلنا بلداً اسمها العيينة، هي أعظم الثلاث، وفيها من الحمض الكباد والنفاش ما لا يوجد مثله إلاّ في صالحية دمشق الشام. وأمّا المياه فلا تُقاس بغيرها طيباً وصفاءً وهضماً سألنا عنها، فقيل: كلّها آبار، وبعضها مالحة. وفي هذه البلاد أرزاق وخيرات كثيرة، وقد حصل لنا تشويش مزاجٍ في هذا الطريق مدّة ثلاثة وثلاثين يوماً، إلى أن وصلنا هذه البلاد، وشربنا من مائها، وتعطّرنا بنسيمها، وحلَلْنا رُباها، مَنَّ اللّه ـ وله الحمد ـ علينا بالعافية، فلمّا تحرّكت الحرارة الغريزيّة قلتُ ارتجالاً على طريق البديهة، وكتبتُ معها كتاباً، وأرسلتها إلى الشام:

 

لقد صرتُ في نجدٍ فأين التلاقيا
 

 

ومَنْ مخبرٌ عنّي بما أنا لاقيا
 

وهذي رُبا نجد الذي عَمَّ ذكرها
 

 

وعِرفُ شذاها[19] في الأقاليم راقيا
 

أنختُ بها رَحلي وشوقي مشوَّشٌ
 

 

وجسمي نحيلٌ والفؤاد مشاقيا
 

أقمتُ بها يوماً ويوماً وأربعاً
 

 

فما كان إلاّ من صباها شفائيا
 

ذكرتُ بها قومي ووُلدي ومَعْشَري
 

 

فحرّك منّي الشوق ما كان خافيا
 

فما كان لي إلاّ رسائل أدمعٍ
 

 

مع الوَجْد من نَجدٍ إلى من يلاقيا
 

وحملته منّي لقومي تحيّةً
 

 

تحلّ دمشق الشام غرباً وشرقيا[20]
 

وتُخبرهم أنّي حفيظٌ لعهدهم
 

 

وأنّ فؤادي عندهم[21] ثَمَّ باقيا
 

وقلتُ له: بلِّغ صبا نجد معشراً
 

 

أعزّة قومٍ وجدهم متراقيا
 

وبالِغْ إذا بلغت وجد منجّدٍ
 

 

ولا تنخجل واسلم وذكرك[22] باقيا
 

لأنّك حرّكتَ الغرام بداهةً
 

 

وصَيَّرتَ شوقي فوق ما هو راقيا
 

صبا نجدٍ حرّكتَ الغرام وخاطري
 

 

وحطّيت بی من دون رَهطي مراقيا
 

صبا نجدٍ باللّه‏ إن حللتَ ديارهم
 

 

فأَشْرِحْ لهم شوقي وما أنا لاقيا
 

صبا نجدٍ سلِّم لي عليهم وقُلْ لهم
 

 

مُقيمٌ كما تعهدون وبقايا
 

صبا نجدٍ قلبي عندهم قد تركتهُ
 

 

فعرّفهم لم يبق لي منه[23] باقيا
 

وأنّي صبورٌ ما تَشاغَلتُ عَنهُمُ
 

 

بزيدٍ ولا عَمْرٍ ولا مَن اُلاقيا
 

وقصدي يكونوا في أسرّ معيشةٍ
 

 

مدى الدّهر أيّاماً لهم ولياليا
 

وأنظرهم قبل الممات هُنيئةٍ
 

 

اُمَتِّعُ بها عيني حين التلاقيا
 

صبا نجدٍ سلِّم لي على حسن الذي
 

 

له في سُويَد القلب أرقى المراقيا
 

ومِنْ بعده سلِّم على صنوه الذي
 

 

له في سواد المُقْلَتَين مساويا
 

هو الفضل من فضل الإله وصِنوه
 

 

عليٌّ وموسى بُغْيَتي ومُراديا
 

وأمّا محمّد الصغير أخيهُمُ
 

 

واِبن أخيه مصطفى متساويا
 

فقبّلهما منّي سحيراً ولا تَخَفْ
 

 

ولطِّفْ وإحذرْ أن يقوما بواكيا
 

وبَلِّغْهُمُ منّي سلاماً مرتَّباً
 

 

واشْرَح لهم حالي وكيفَ اشتياقيا
 

وبُثَّ لهم وَجْدي وما قد شهِدتُهُ
 

 

وأنّ اشتغالي ذِكْرَهم في دُعائيا
 

وباللّه‏ إن وافيت وادي بعلبكْ
 

 

فَقِفْ لِتَكُنْ لي بالغرامِ مُساويا
 

هناك عزيز من أعزّة مَعشَرٍ
 

 

له عَلَمٌ مَنْ اسمه متعاليا
 

سَمِيُّ خليل اللّه، عُلوانُ جَدُّه
 

 

ومسكنهُ جسمي، وإن كان نائيا
 

فسلِّمْ عليه مع أخيه ووُلدهم
 

 

لهم حالة عُليا حال دعائيا
 

وعَرِّفهُ أنّي مَشُوق لذاته
 

 

وإنّي لِمَنْ يوليه ما دُمْتُ واليا
 

ومِنْ بعدما حُمِّلتَ بلِّغْ تحيةً
 

 

لكلِّ خليلٍ في الأحبّة زاكيا
 

ففي أيّ وادٍ قد حَللتَ فَهُم به
 

 

دمشقٍ وأقطارٍ لها وأقاصيا
 

لحا اللّه أيّام الوداع ونظرتي
 

 

إليهم ويُبدي الدّمعُ ما كان خافيا
 

ولكن ذكرنا قول من قال قبلنا
 

 

مقال اعتبارٍ في الحقيقة راقيا
 

وقد يجمع اللّه الشتيتَيْن بعدما
 

 

يظنّان كلّ الظنّ ألّا تلاقِيا
 

 

 

وقد كان مدّة تشويشنا تزيد عن ثلاثين يوماً، والحمد للّه‏ على العافية. وممّا نالنا من العوارض بعدما مَنَّ اللّه علينا بالعافية من التشويش المرقوم يومين اثنين فقط، ففي اليوم الثالث صِرْنا في أرضٍ يُقال لها الضواحي، كناية عن وديان من الرّمل، فعارض جملٌ شاردٌ لجَمَلنا على حين غفلةٍ على أعلى شفير الوادي، فقطع خطام جَمَلنا، وألقانا وإيّاه مع التنبليت فما هدّانا إلى سفل الوادي، ولكن اللّه سَلَّم، ولم نَفِقْ إلاّ ونحنُ مُلقايَيْن على الأرض، لا نعلم ما حصلَ علينا، ولم نستطع النهوض، فَلَطَفَ اللّطيف بنا، وركبنا بمَحمَل كان معني إلى أن وصلنا إلى القناق، فرأينا أطرافنا بخير، وله الحمد، غير أنّ عروق فخذنا اليسار صار لهم تضعضع وتعقّد، فاستقمنا بعد ذلك أربعة أيّام، مجدّين السَّير بالإساء، إلى أن وصلنا في اليوم الخامس الحَسا.

 

[في الأحساء]

فإذا هي بلدةٌ عظيمة البناء، واسعة الرِّحاب، كثيرة المياه، تشتمل على عيون جارية وآبار مَعينة، ومساجد وعلماء وصُلحاء ورعايا الجميع سمت العرب، محصولها النخيل، وجُلّ غِلالها التمر مع الرّخص، أقمنا بها خمسة وعشرين يوماً، نعلّل رِجْلَنا، وسألنا عن مُجبِرٍ حاذق، فدلّونا على رجلٍ يُقال له حجّي ابن شَعيوِين من قرية من قراها، يُقال لها الهشدت خارج البلد بخمس فراسخ، أرسلنا إليه، فجاء وباشر خدمتنا وتعليلنا الأيّام المذكورة ـ جزاه اللّه خيراً ـ وكان من إخواننا الموفّقين، وما خرجنا منها إلاّ نمشي عليها ـ وله الحمد.

وأمّا ما كان من وصف هذه الحسا؛ فمواشيهم جميعاً الإبل والبقر والحمير مع أهاليها أكلهم التمر، غير أنّ البقر يحلّون لهم التمر بالماء، ويسقوهم إيّاه، والنّوا يغلو عليه في الماء حتّى يلين، ويجعلوه لهم علفاً، وأمّا البيدنجان[24] فخلقة لطيفة شريفة، كبيرٌ يُباع بالعَدد، وأمّا القِثاء فطويل سَبِط معوعج، يزيد طول كلّ واحد عن الذراع. وخيراتها كثيرة لأهلها ـ أصلح اللّه حالهم ـ ويذكروا أنّ نصف أهلها شيعة، ونصفها سُنّة، ومتّحدين اتّحاد الأهل، من غير عِنادٍ بينهم، وكذلك قراها، وكافلها وواليها وحاميها يُقال له الشيخ سعدون، سُنّي من عرب خالد، ووزيره شيعي يُقال له الشيخ ناصر، وأنّه من أولاد مروان بن الحكم كما أخبرنا، واجتمعنا ببعض أهل البلد من الفريقين، وكلّ منهما راضٍ من الآخر.

وممّا وقع في الحسا في أيّام إقامتنا، أن دخل علينا بعض الأصحاب وقال: يا سيّدي وقع اليوم حادثة عجيبة، وهو أنّ رجلاً زانٍ دخل على زانية بيتها، وفعل معها ما فعل، وبعد أن تمّ رأته قد ضحك وهو على صدرها، ولم يتحرّك، فدفعته عنها، فإذا هو ميّت، فخرَجَتْ وأبقتهُ في البيت، فلمّا تفقّدوه أهله ولم يجدوه، أتوا لمحلّ الباغية، لعلم بعض أهله تردّده عليها، فوجدوه مُلقىً في بيتها، فحملوه وأخذوه. قلنا: والحكّام قالوا: ما أجد يدور رجلٌ مات ودفنوه أهله. وأمّا هذه الواقعة المحكيّة فعن لسان الشقيّة أحكتْ لرجل، وهو أحكى لنا، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏ العليّ العظيم. ومن تمام القصّة: يسألونا هل يُغَسَّل هذا ويُكفَّن ويُدفَن، أم مات عاصياً، لأنّ الحديث الشريف: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن[25]. وهذا زنى، وزال إيمانه، ومات، وهو زائل الإيمان، كيف حكمه؟ فقلنا: روحوا لعلمائكم. فهذه من جملة محاسنها القبيحة.

وسألنا عن نخيلها، وأنّ الإنسان إذا غرس كَرم نخيل كم سنة حتّى يُطعم؟ فقالوا: خمس ستّ سنين، وفي العاشرة يكون كَمُل حمله وسياقه. ويزرعون تحته القتّ وهو الفصّة لأجل الماء، والسقاية في كلّ اُسبوع. والنخيل والتمر الذي فيها لا يُوصَف. وذكروا أنّ اسمها هَجَر بفتح الجيم، وهي الذي ضُرب بها المَثَل: كمُهدي التمر إلى هَجَر.

وإنّما سُمّيت الحَسا، لِحَساء الماء فيها، وتخلّله في أراضيها. ويقوم فيها سوقٌ عظيم في نهار كلّ خميس، وتأتيه أهل القراء من سائر الأطراف، ويُباع فيه من ساير الأشياء.

وقال لي بعض العلماء من تلك الدِّيار: إنّ هَجَر اسمٌ يُطلق على البحرين والحويزا والحسا، هذه الثلاثة.

وقد اجتمعنا فيها برجلٍ سيّد يُقال له السيّد عبد اللّه ابن السيّد علي المشهدي، ذكرَ لي أنّ أصلهم مشاهدة[26]، وصاروا من أهالي الحسا من مدّة مديدة، وله هِمّة عالية في قضاء حوائج الإخوان ـ جزاه اللّه خيراً ـ وتقيّد في مصالحنا، وله بعض علميّة، يسّر اللّه أمره. واجتمعنا في رجلٍ من أجلاّء الإخوان، يُقال له: الشيخ أحمد بن حصي، من أفاضل العلماء، قائم بأعباء مصالح إخوانه، جزاه اللّه خيراً.

[إلى الكويت والبصرة]

ثمّ خرجنا مع تيسير اللّه تعالى اتّجاه النجف الأشرف، نهار الجمعة بعد العصر، وهو الرابع من شهر جمادى الاُولى، فكان إقامتنا برحابها كما ذكرنا خمسة وعشرين يوماً، بدار خارج البلد يُقال لها البرّانيّة، ومن ألفاظهم المُجمعين عليها أن يسمّوا باب المدينة (الدروازه)، وداخل البلد (الكوت)، خرج فلان من الكوت، دخل فلان إلى الكوت. والنار يسمّونها (ضو) بجميع أصنافها، كثيرها وقليلها، و إذا سألوا من بعضهم، يقول: يا فلان، يا فلانة، عندكم ضو؟

ثمّ من نهار خروجنا إلى مضيّ خمسة عشر يوماً دخلنا بلداً يُقال له الكُويت، بالتصغير، بلد لا بأس بها، تشابه الحَسا، إلاّ أنّها دونها، ولكن بعمارتها وأبراجها تشابهها، وكان معنا حجّ من أهل البصرة فرّق عنّا من هناك، على دربٍ يُقال له الجهرا، ومن الكويت إلى البصرة أربعة أيّام، وفي المركب يوماً واحداً، لأنّ ميناء البحر على كتف الكويت.

وأمّا الفاكهة والبطّيخ وغير ذلك من اللّوازم يأتي من البصرة في كلّ يوم في المركب، لأنّها اِسكلة البحر، أقمنا بها يوماً وليلتين، وتوجّهنا على بركة اللّه اتّجاه النجف الأشرف، نهار الأحد، عشري الشهر المذكور. وهذه الكُويت المذكورة اسمها القُرين. ومشينا قبل وصولنا إليها على كنار البحر ثلاثة أيّام، والمراكب مُسايرتنا، والميناء على حدود البلدة من غير فاصلة، وهذه البلدة يأتيها سائر الحبوب من البحر حنطة وغيرها، لأنّ أرضها لا تقبل الزراعة، حتّى ما فيها شيء من النخيل، ولا غير شجر أصلاً. وأسعارها أرخص من الحسا، لكثرة الدفع من البصرة وغيرها، ورأينا هلال جمادي الثاني ليلة الخميس قبل وصولنا النجف الأشرف بستّة أيّام.

 

[في النجف الأشرف]

ثمّ بعد ذلك مَنَّ اللّه علينا بالتوفيق والعناية، ودخلنا النجف الأشرف ضحوة نهار الثلاثة المبارك سادس الشهر المذكور ـ وللّه‏ الحمد ـ يا لها من نعمةٍ بها كمال الدِّين وتمام النعمة، ونسأله من فضله عزّ وجلّ أن يمُنَّ علينا بالوصول إلى تقبيل أعتاب أولاده الكرام و الأئمّة العظام ـ عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ وكان إقامتنا في جواره وتقلّبنا في أعتابه اثني عشر يوماً.

ومـا هي أيّامٌ، ولا هي ليالي               ولكنّ أيّام الحياة التي تدري

والحمدُ للّه‏ ربّ العالمين، دخلنا تحت تلك القبّة البيضاء، وقبّلنا تلك الأعتاب، وزُرْنا عنّا وعن والدينا ووالد والدَينا ووُلدنا ووُلدهم ومَن ينسب إلينا ويؤول علينا، ونسأله من فضله القبول، بجاه الرسول.

ثمّ زُرْنا عن مَن قلّدنا الزيارة جملةً وتفصيلاً، وتوجّهنا في ذلك الأيّام مع جملة من الإخوان إلى مسجد كوفان، وكان نهار الجمعة المبارك 16 الشهر المذكور، وحمدتُ اللّه تعالى حمدَ عبدٍ شَكور، ودعوتُ اللّه سبحانه وتعالى لنا ولسائر الإخوان، ونسأله من فضله القبول، واستوفينا أماكنها وزياراتها، وله الحمد.

وقد زُرْنا في جوار المشهد المقدّس النجفي مدفن الشيخ الفاضل العلاّمة جمال الدِّين ابن المطهّر[27] والشيخ المرحوم الفاضل العالم العامل صاحب التأليف الشيخ أبي جعفر الطوسي[28] رحمهما اللّه تعالى، واجتمعنا مع بعض علماء المشهد المعظّم بمجالسهم ومدارسهم، منهم الفاضل العالم العامل الملاّ الشريف أبو الحسن[29] خال المولى السيّد الأجلّ الفاضل السيّد محمّد صالح شيخ الإسلام[30]، وكان يُقري درساً عامّاً في من لا يحضره الفقيه، وحوله قرب العشرين من أفاضل الطلبة، وذلك في داره في محلّ الدرس. وقد كلَّفَنا بعضُ الأفاضل إلى أماكنهم ـ بارك اللّه فيهم جميعاً ـ وقد أقام في خدمتنا مدّة إقامتنا في النجف الأشرف الرجل الصالح والأخ الفالح الحاجّ محمّد ابن المرحوم الحاج شرف الدِّين تُويج ـ بارك اللّه فيه، وجزاه عنّا خيراً ـ وأخذ لنا سُكنى في جواره، وكان لا ينفكّ عنّا ليلاً ولا نهاراً، وفي خدمتنا سرّاً و إجهاراً، وطهَّر أولاده[31] ونحن عندهم ـ أقرَّ اللّه عينهُ بهم ـ قاسم وزين العابدين، ودعونا اللّه له أن يزوّجهم، ويرى أولادهما، بمنِّهِ وكرَمه.

 

[إلى كربلاء]

ثمّ ودّعنا أمير المؤمنين، وتوجّهنا لتقبيل أعتاب ولده الإمام الحسين عليه‏السلام، ونحن بالتوفيق والعناية والأمن مؤتمّين، وذلك نهار السبت سابع عشر الشهر المرقوم، وجعلنا دربنا على الحلّة الفيحاء، وبِتْنا فيها لَيلَتين، ودخلنا بعض حمّاماتها، وزُرْنا أماكنها المشرّفة، وخرجنا منها نهار الاثنين عصريّته، فدخلنا إلى أعتاب الإمام الجليل أبي عبد اللّه الحسين عليه‏السلام صبح الثلاثة عشري الشهر المشكور، وللّه‏ الحمد، والحمد للّه‏ ربّ العالمين على كمال إنعامه، ونزلنا في جواره بمحلٍّ قريب جدّاً لباب الحرم، يُعرَف ببيت الخطيب، وأقمنا في جواره مجاورين، وفي أعتابه متقبّلين، ثلاثة عشر يوماً، وزُرْنا عنّا وعن والدينا ووُلدنا ومَن ينسب إلينا ومَن قلّدنا ذلك من إخواننا.

وفي أثناء هذه الأيّام المباركة حَضرَنا هلال الشهر المعظّم رجب من شهور سنة 1121، وكانت ليلة الجمعة المعظّمة الغرّاء، وصار جمعٌ عظيم من ساير الأطراف، حتّى أتى والي بغداد وحرَمِه وجُنده، وكان ليلة كلَيْلة مِنى، ويومٌ كيوم عرفة، وأقمنا بأرغد عيش، وتصاحبنا وتعاشرنا مع زمرة من السادات وغيرهم المجاورين لذلك الحائر العظيم والمشهد الكريم، يسَّر اللّه أمرهم أجمعين.

 

[إلى الكاظميّة]

ثمّ ودّعنا تلك الأعتاب، مُعَفِّرين جباهنا بالتراب، وقَصَدنا زيارة الإمامين المعظَّمين أئمّتنا الكاظِمَين عليهما الصلاة والسلام، وتوجّهنا إلى بغداد دار السلام بالسلام، وذلك نهار الاثنين رابع شهر رجب المبارك، و اللّه الموفِّق والمُيسِّر. بِتْنا على شطّ الفرات في قرية يُقال لها المُسَيّب، بعد أن قطعنا الفرات بالسفينة، ثمّ قمنا من ذلك المحلّ نصف اللّيل، صلّينا الصبح في محلٍّ يُقال له بير النصف، وسِرْنا على بركة اللّه إلى ضحوة النهار، وصلنا إلى خانٍ يُقال له خان زاده، ومقابله قرية باسمه، وأخبرَنا سكّان ذلك المحلّ أنّ هذا الخان كان مَقْطع ومَلْفأ الأعراب قُطّاع الطريق، ففي أيّام حضرة الوزير المكرّم حسن باشا والي بغداد حالاً ـ أدام اللّه أيّامه ـ مهّد الطُرقات، وأمَّن السُبُلات، وطفي الأعراب، وعمّر هذا المحلّ وغيره. وكان يوم تاريخه شارع في عمارة جسر على الفرات لتقطع المارّة عليه عوض السُّفُن.

واستقمنا في ذلك الخان إلى أن صلّينا الظهرين، وتوجّهنا على بركة اللّه تعالى دخلنا دار السلام بغداد، آخر نهار الأربعاء قبل الغروب، ونزلنا عند الأخ الصالح حاجي الحرمين الشريفين الحاجّ زين العابدين النعلبند ـ جزاه اللّه خيراًـ وقد أرسل ولديه لاقُو لنا إلى الطريق، وأقمنا في بغداد ثمانية أيّام في إعزازٍ وإكرام، زُرنا الإمامين العظيمين الإمام موسى الكاظم و الإمام الجليل محمّد الجواد ـ عليهما أفضل الصلاة وأتمّ السلام ـ وكان ذلك في نهار الخميس وليلة الجمعة ويومها، ونزلنا عند رجلٍ من جيران الإمامين المعظّمين يُقال له الحاجّ حاكم وحاتم و هاشم [32] ـ جزاه اللّه خيراً ـ وزُرْنا ولديه الأعظمين مولانا السيّد الجليل جدّنا إبراهيم المرتضى، وأخيه السيّد الجليل إسماعيل في جواره، داخل دار الحرَم ـ عليهما سلام اللّه ورضوانه ـ ويا لها من حضرة عظيمة، ورحم اللّه مَن عمّر [ها]، و دُرْنا في أسواق بغداد، ودخلنا بعض حمّاماتها، وزُرْنا سلطان الأولياء حضرة الشيخ عبد القادر الگيلاني، و الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، وزُرْنا الأولياء المدفونين في أطرافها، والصالحين المجاورين بأكنافها، وتسوّقنا ما احتجنا من جوخ و كِسوة و خيّطنا أسباباً كثيرة، وأقام بخدمتنا الحاجّ زين العابدين المذكور طول إقامتنا ـ جعل اللّه سعيه مشكوراً ـ وبعد ذلك توجّهنا إلى زيارة الكاظمين ـ عليهما أفضل الصلاة والسلام ـ وخرجنا من بغداد نهار الثلاثة ثاني عشر شهر رجب المبارك، وهي زيارة ثانية و وداع، ونسأل اللّه العود ثمّ العود، إلى تلك الرِّحاب المعظّمة والبقاع المكرَّمة، فزُرْناهما و ودّعناهما واستقمنا إلى عصريّة الأربعاء، ونزلنا في السفينة، وقطعنا على طريق المعظّم أبي حنيفة النعمان، زُرْناهُ ثانياً، وبِتْنا على طريق الشطّ، ومعنا من الأصحاب والأحباب جماعة أعزّاء، شيّعونا ـ سلّمهم اللّه تعالى.

[إلى سامرّاء]

وتوجّهنا إلى سُرَّ مَنْ رأى، وصلنا إلى قريةٍ يُقال لها القاظاني، بلد أهلها لنا إخواناً، بِتْنا فيها، ووَدَعنا أسبابنا وأمتعتنا عند أخيار أهلها، وتوجّهنا منها لتقبيل أعتاب الإمامين العظيمين العسكريّين الإمام عليّ الهادي و الإمام الحسن العسكري ـ عليهما سلام اللّه ورحمته ورضوانه ـ فزُرْنا وللّه‏ الحمد، وانحظينا غاية الحظّ، و دُرْنا في دمنها و رحابها، وتفرّجنا على جامعها العظيم المبنيّ برسم بني العبّاس الذي ما بقي منه إلاّ رسمه، وفيه آثار منارة عظيمة، كان المؤذّن إذا صعد أعلاها ليؤذِّن، فدُرجها خارج بدنها، فيكون المؤذِّن يصعد و يدور في الدُّرج، وهي على يساره، إلى أن يصل إلى أعلاها، وعلى غير جهات فيها. وهي في الأصل بلدة كبيرة جدّاً، وصارت الآن في غاية من الخراب، وأمّا أهلها ـ لطف اللّه بهم ـ فقراء دنيا و اُخرى، واستوعبنا الزيارات التي هناك: الإمامين العسكريّين، ونرجس اُمّ الحجّة المنتظر، وحليمة اُخته ومحلّ مولد المهدي عليه‏السلام، ونزلنا السرداب، وهو محلّ الغيبة، و ودّعناهم كما زُرناهم ـ عليهم سلام اللّه ـ عصريّة الأحد، ومشينا تلك اللّيلة، فطلَعَت لنا الشمس صبح نهار الاثنين في المحلّ الذي خرجنا منه، وهو القاظاني المذكور أوّلاً، والمودوع فيه أمتعتنا، فأقمنا تتمّة ذلك النهار، وأخذنا أمتعتنا، و ودّعنا مَن كان معنا من رفقتنا، وتوجّهنا على بركة اللّه مستعينين بحولِه و قوّته، إلى تقبيل أعتاب الإمام الأعظم الضامن الثامن عليّ بن موسى الرِّضا عليه‏السلام ليلة الثلاثة المسفر صباحها عن تاسع عشر الشهر المعظّم رجب المرقوم، وكان قناقنا إلى قريةٍ يُقال لها بيعقوبا[33]، ونسأل اللّه تمام المقصود، والسلام، والحمد للّه‏ وحده.

وكان مدّة هذا السير من 26 شوّال سنة 1120، إلى 19 رجب سنة 1121، فيكون عشرة أشهر، وتتمّة الزيارة كان والعود إلى [34] رابع صفر سنة 1122، والحمد للّه‏ ربّ العالمين.

 

.[1] القِناق: كلمة تركيّة، بمعنى: المنزل والمرحلة من المسافة.

[2]. راجع: أعيان الشيعة، ج7، ص167 .

[3]. أي تتابع المطر فيها .

[4]. وهو نهر، قنايه نصف ساعة عن بوبة اللّه محلّ الوداع من هامش المخطوطة.

[5]. أي النبات.

[6]. العروبة: الجمعة.

[7]. أي: حينئذٍ كنتُ أُبشّر نفسي في نيل مُناها من هامش المخطوطة.

[8]. لعلّ مراده من المسجدين مسجد الشجرة ومسجد التعريس قريب من مسجد الشجرة.

[9]. هنا فراغ بياض في المخطوطة بمقدار كلمتين، والظاهر أنّ المراد: عاد أحدُ أعيان الركب قاضي مكّة، فأرسل القاضي باچ چاويش إلى أمير الركب.

[10]. والآن يُقال له: المعابدة.

[11]. أي: لا يُدْرَك.

[12]. أي: لا يدخل عليه إضامة.

[13]. أي: أربعين ليلة.

[14]. أي: لا تظنّ.

[15]. أي: للشريف.

[16]. أي: السلسلة.

[17]. لغة في: الأحساء.

[18]. أي: رئيس الحملة.

[19]. أي: رائحة طيبها.

[20]. أي: سائر أطراف البلد.

[21]. أي: الشام.

[22]. أي: وفضلك عَلَيّ.

[23]. أي: من قلبي.

[24]. أي: الباذنجان.

[25].

[26]. أي: من أهل مشهد الإمام الرِّضا عليه‏السلام بخراسان إيران.

[27]. هو الشيخ حسن بن يوسف بن المطهّر الحِلّي صاحب التأليفات الكثيرة الفاخرة الباقية المطبوعة ت726هـ.

[28]. هو شيخ الطائفة الإماميّة محمّد بن الحسن الطوسي صاحب الآثار العظيمة المطبوعة ت460هـ.

[29]. هو الشيخ أبو الحسن الشريف الفتوني العاملي ت 1139هـ.

[30]. هو السيّد محمّد صالح الخاتون آبادي الإصفهاني ت1126هـ.

[31]. أي: خَتَنهم.

[32]. كذا في المخطوطة.

[33]. وهي نفس بعقوبة.

[34]. كذا في المخطوطة ومحلّ العود غير مذكور.

نظر شما ۰ نظر

نظری یافت نشد.

پربازدید ها بیشتر ...

رساله در ردّ بر تناسخ از ملا علی نوری (م 1246)

به کوشش رسول جعفریان

یکی از شاگردان ملاعلی نوری (م 1246ق) با نام میرزا رفیع نوری (م 1250ق) که به هند رفته است، پرسشی در

مکتب درفرایند تکامل: نقد و پاسخ آن

آنچه در ذیل خواهد آمد ابتدا نقد دوست عزیز جناب آقای مهندس طارمی بر کتاب مکتب در فرایند تکامل و سپس پ